الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة الأحزاب: الآيات 60- 62]: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}.{الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه. وقيل: هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}.{وَالْمُرْجِفُونَ} ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيقولون: هزموا وقتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا، إذا أخبر به على غير حقيقة، لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء:لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوؤهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، وإلى أن لا يساكنوك فيها إِلَّا زمنا قَلِيلًا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم، فسمى ذلك إغراء، وهو التحريش على سبيل المجاز مَلْعُونِينَ نصب على الشتم أو الحال، أي: لا يجاورونك إلا ملعونين، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا، كما مرّ في قوله إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ولا يصح أن ينتصب عن أُخِذُوا لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. وقيل في قَلِيلًا وهو منصوب على الحال أيضا. ومعناه. لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. فإن قلت: ما موقع لا يجاورونك؟ قلت:لا يجاورونك عطف على لنغرينك، لأنه يجوز أن يجاب به القسم. ألا نرى إلى صحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يجاورونك. فإن قلت: أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت: لو جعل الثاني مسببا عن الأوّل لكان الأمر كما قلت، ولكنه جعل جوابا آخر للقسم معطوفا على الأوّل، وإنما عطف بثم، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه سُنَّةَ اللَّهِ في موضع مصدر مؤكد، أي: سن اللّه في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل: يعنى كما قتل أهل بدر وأسروا..[سورة الأحزاب: آية 63]: {يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)}.كان المشركون يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحانا، لأن اللّه تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر اللّه به، لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، وإسكانا للممتحنين قَرِيبًا شيئا قريبا. أو لأن الساعة في معنى اليوم، أو في زمان قريب..[سورة الأحزاب: الآيات 64- 65]: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خالِدِينَ فِيها أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65)}.السعير: النار المسعورة الشديدة الإيقاد..[سورة الأحزاب: آية 66]: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66)}.وقرئ: تقلب، على البناء للمفعول. وتقلب، بمعنى تتقلب. ونقلب، أي: نقلب نحن.وتقلب، على أن الفعل للسعير. ومعنى تقليبها: تصريفها في الجهات، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة. أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها. أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين. وخصت الوجوه بالذكر، لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة، وناصب الظرف يَقُولُونَ أو محذوف. وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان يَقُولُونَ حالا..[سورة الأحزاب: الآيات 67- 68]: {وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}.وقرئ: سادتنا وساداتنا: وهم رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم. يقال: ضلّ السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت: جعلت فواصل الآي كقوافى الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع، وأن ما بعده مستأنف. وقرئ: كثيرا، تكثيرا لإعداد اللعائن. وكبيرا، ليدل على أشد اللعن وأعظمه ضِعْفَيْنِ ضعفا لضلاله وضعفا لإضلاله: يعترفون، ويستغيثون، ويتمنون، ولا ينفعهم شيء من ذلك..[سورة الأحزاب: آية 69]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)}.لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل: نزلت في شأن زيد وزينب، وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وقيل: في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها، وقيل: اتهامهم إياه بقتل هرون، وكان قد خرج معه الجبل فمات هناك، فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول. وقيل: أحياه اللّه فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام. وقيل: قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة، فأطلعهم اللّه على أنه بريء منه وَجِيهًا ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويدفع الأذى، ويحافظ عليه، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة. وكان عبد اللّه وجيها. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان، فسمعته يقرؤها. وقراءة العامة أوجه لأنها مفصحة عن وجاهته عند اللّه، كقوله تعالى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وهذه ليست كذلك. فإن قلت: قوله مِمَّا قالُوا معناه: من قولهم، أو من مقولهم، لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فكيف تصح البراءة منه؟ قلت المراد بالقول أو المقول: مؤداه ومضمونه، وهو الأمر المعيب. ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة، والقالة بمعنى القول؟.[سورة الأحزاب: الآيات 70- 73]: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}.قَوْلًا سَدِيدًا قاصدا إلى الحق والسداد: القصد إلى الحق، والقول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرميّة: إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم قاصد، والمراد: نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول، والبعث على أن يسد قولهم في كل باب لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى: راقبوا اللّه في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم اللّه ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء اللّه تعالى في حفظ اللسان، ليترادف عليهم النهى والأمر، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وعلق بالطاعة الفوز العظيم، أتبعه قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ وهو يريد بالأمانة الطاعة، فعظم أمرها وفخم شأنها، وفيه وجهان، أحدهما: أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر اللّه عز وعلا انقياد مثلها- وهو ما يتأتى من الجمادات- وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها- حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة، كما قال قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وأما الإنسان فلم تكن حاله- فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر اللّه ونواهيه، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف- مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، والمراد بالأمانة: الطاعة، لأنها لازمة الوجود، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها: مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها، تريد:أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون، ولى عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ونحوه قولهم، لا يملك مولى لمولى نصرا. يريدون: أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل. ومنه قول القائل:أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه، فمعنى: فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني: أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله: أنه عرض على أعظم ما خلق اللّه من الأجرام وأقواه وأشدّه: أن يتحمله ويستقل به، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم: لو قيل للشحم: أين تذهب؟لقال: أسوى العوج، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه، كما أن العجف مما يقبح حسنه، فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، وهي به آنس وله أقبل، وعلى حقيقته أوقف، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت: قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد: أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لأنه مثلت حاله- في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما- بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة، وليس كذلك ما في هذه الآية، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صح بناء التمثيل على المحال، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت: الممثل به في الآية وفي قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب.وفي نظائره مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات: مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في لِيُعَذِّبَ لام التعليل على طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش. ويتوب، ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل، ويبتدئ: ويتوب اللّه. ومعنى قراءة العامة: ليعذب اللّه حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر، واللّه أعلم.قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه، أعطى الأمان من عذاب القبر». اهـ. .قال ابن جزي: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتئوي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ}.معنى {تُرْجِي} تؤخر وتبعد، ومعنى: {وتئوي} تضم وتقرب. واختلف في المراد بهذا الإرجاء والإيواء، فقيل إن ذلك في القسمة بينهنّ، أي تكثر لمن شئت، وتقلل لمن شئت، وقيل: إنه في الطلاق أي تمسك من شئت وتطلق من شئت؛ وقيل: معناه تتزوج من شئت، وتترك من شئت، والمعنى على كل قول توسعة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإباحة له أن يفعل ما يشاء، وقد اتفق الناقلون على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه: أخذًا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له، والضمير في قوله: {مِنْهُنَّ} يعود على أزواجه صلى الله عليه وسلم خاصة أو على كل ما أحل الله له على حسب الخلاف المتقدم {وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} في معناه قولان: أحدهما من كنت عزلته من نسائك فلا جناح عليك في ردّه بعد عزله، والآخر من ابتغيت ومن عزلت سواء في إباحة ذلك، فمن للتبعيض على القول الأول، وأما على القول الثاني فنحو قولك: من لقيك ومن لم يلقك سواء {ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} أي إذا علمن أن هذا حكم الله فرّت به أعينهن ورضين به، زال ما كان بهنّ من الغيرة، فإن سبب نزول هذه الآية ما وقع لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة بعضهن على بعض.{لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} فيه قولان: أحدهما لا يحل لك النساء غير اللاتي في عصمتك الآن ولا تزيد عليهن، قال ابن عباس لما خيرهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله جازاهن الله على ذلك، بأن حرّم غيرهنّ من النساء كرامة لهنّ، والقول الثاني: لا يحل لك النساء غير الأصناف التي سميت، والخلاف هنا يجري على الخلاف في المراد بقوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} أي لا يحل لك غير من ذكر حسبما تقدم، وقيل: معنى لا يحل لك النساء: لا يحل لك اليهوديات والنصرانيات من بعد المسلمات المذكورات وهذا بعيد، واختلف في حكم هذه الآية، فقيل إنها منسوخة بقوله: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} على القول بأن المراد جميع النساء، وقيل: إن هذه الأية ناسخة لتلك على القول بأن المراد من كان في عصمته، وهذا هو الأظهر لما ذكر عن ابن عباس، ولأن التسع في حقه عليه الصلاة والسلام كالأربع في حق أمته {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} معناه لاي حل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرها بدلًا منها {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} في هذا دليل على جواز النظر إلى المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} المعنى أن الله أباح له الإماء، والاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء، أو في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في حسنهن.{يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ} سبب هذه الآية ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما تزوج زينب بنت جحش، أوْلم عليها فدعا الناس، فلما طعموا قعد نفر في طائفة من البيت، فثقل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج ليخرجوا بخروجه، ومر على حُجَر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم، فانصرف فخرجوا عن ذلك، وقال ابن عباس: نزلت في قوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلون عليه قبل الطعام فيقعدون إلى أن يطبخ، ثم يأكلون ولا يخرجون، فأمروا أن لا يدخلوا حتى يؤذن لهم، وأن ينصرفوا إذا أكلوا، قلت: والقول الأول أشهر، وقول ابن عباس أليق بما في الآية من النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم، فعلى قول ابن عباس في النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم، والقول الأول في النهي عن القعود بعد الأكل، فإن الآية تضمنت الحكمين {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي غير منتظرين لوقت الطعام، والإنا الوقت، وقيل: إنا الطعام نضجه وإدراكه، يقال أنى يأنى إناء {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا} أمر بالدخول بعد الدعوة، وفي ذلك تأكيد للنهي عن الدخول قبلها {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا} أي انصرفوا، قال بعضهم: هذا أدب أدّب الله به الثقلاء {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} معطوف على غير ناظرين، أو تقديره: ولا تدخلوا مستأنسين، ومعناه النهي عن أن يطلبوا الجلوس للأنس للأنس بحديث بعضهم مع بعض، أو يستأنسوا لحديث أهل البيت، واستئناسهم: تسمعهم وتجسسهم {إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي} يعني جلوسهم للحديث أو دخولهم بغير إذن {فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} تقديره يستحي من إخراجكم، بدليل قوله: {والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق} أي أن إخراجكم حق لا يتركه الله.
|